بسم الله الرحمن الرحيم أخ كريم سألني قبل البارحة عن عِصمة الأنبياء، وعن حِفظ الأولياء.
أوَّلاً: النبي عليه الصلاة والسلام مَعصوم
بِمُفرَدِهِ، ولا أحدَ من أُمَّتِهِ معصوم مِثلهُ ؛ معصومٌ في أقواله،
ومعصوم في أفعاله، ومعصوم في أحواله، ومعصوم في إقراره، لأنَّ الله عصمهُ،
وأمرنا أنْ نتَّبِعَهُ، وعدَّ طاعته من طاعتِهِ، قال تعالى:
﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)﴾
(سورة النساء)
وقال تعالى:
﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(63)﴾
(سورة النور)
الله سبحانه وتعالى جعلَهُ مُشَرِّعًا فأقواله تَشريع، وأفعاله وإقراره تشريع، قال تعالى:
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(7)﴾
(سورة الحشر)
والله سبحانه وتعالى حفِظ كتابه ومن لوازِم حِفظ
كتابه، أنَّه حفِظَ سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلَّم وليس معنى الحفظ أن
لا تكون مُحاولة للتغيير فمعنى الحِفظ أن لا تنْجحَ المُحاولة فقد نقول:
هذه السيارة مُحصَّنة ضِدَّ الرصاص، ليس معنى ذلك أنَّه لا يُطلق عليها
الرَّصاص ! ولكن المعنى قد يُطلق عليها الرصاص ولكن لا تتأثّر به، فإذا
جرتْ مُحاولات لِوَضْع الأحاديث وتبديل السنَّة، فهذه المحاولات لا تنْجح
لأنَّ الله سبحانه وتعالى هيَّأ لهذه السنَّة رِجالاً لهم هِمَّة وضبْط
وعدالةٌ تفوق حدَّ التَّصَوُّر، وقـد بذلوا جُهدًا جهيدًا، وعملاً
مَشْكورًا حتَّى حَفِظوا لنا السنَّة، فأنت تأخذ جُهْدهم سائِغًا سَهلاً،
فأصَحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى كتاب الإمام البخاري، ثمَّ كتاب الإمام
مسلم، وأصحُّ منهما ما اتفقا عليه، ثمّ الكتب الصِّحاح الأخرى، فهذا عن
رسول الله ؛ معصوم بِمُفردِهِ لأنَّ الله تعالى عصَمَهُ في أقواله وأفعاله
وإقراره وأحواله، وأمرنا أن نأخذ عنه، وعدَّ طاعته طاعة الله عز وجل قال
تعالى:
﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)﴾
(سورة النساء)
وأمرنا أن نُطيع الله ورسوله معًا ونفى عنَّا الإيمان كُلِيًّا إن لم نقْبَل سنّة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)﴾
(سورة النساء)
بقِيَ أنَّ الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نرْجِعَ في أيِّ نِزاعٍ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً (59)﴾
(سورة النساء)
فالعلماء يعرفون الأمْر، والأمراء يُنفِّذون الأمر، حينما قال الله عز وجل:
﴿ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
(سورة الحديد)
نؤمن برسوله لأنَّه المعصوم، ولأنَّه المبلِّغ،
لأنَّه المُبيِّن، والمُقيِّد لما أطلقه القرآن، وخصَّ ما عمَّمَه،
ووضَّحه، فهذا عن رسول الله وليس في عقيدة أهل السنة والجماعة إنسانٌ
معصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
قد يكون مستواه في قِمَّة الصحابة، ومع ذلك ليس معصومًا، إلا أنَّ
أُمَّتَهُ معصومةٌ بِمُجْمَعِها، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: عن
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
(( إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ ))
(رواه ابن ماجه )
فإذا أقرَّ مجموع المسلمين فإقرارهم صحيح لأنَّ
الله سبحانه وتعالى عصَمَ أُمَّته وشخصه عن الخطأ في أقواله وأفعاله
وإقراره وعصَمَ أمَّتَهُ عن الخطأ مُجْتَمِعَةً، فكُلُّ مسلِمٍ تفوَّق في
جانِبٍ، وغاب عنه جانِب، فإذا الْتقى مع أخيه وتعاوَنَ معه كمَّلَ نقْصَهُ.
المؤمن ليس معصومًا، ولكنَّه محفوظ، معنى الحِفظ
أنَّه لا يليق لِمُؤمن أنْ يفعَلَ معْصِيَةً وهو يعلم أنَّها معْصِيَة،
ننْفي عنه أن يفْعل معْصِيَةً قصْدًا وننْفي أن يفْعَلَ معْصِيَةً كبيرة،
وننْفي عنه أن يُصِرَّ على معْصِيَة، لذلك قال علماء العقيدة: لا تضرّ
المؤمن معْصِيَة ! كيف ؟! أوَّلاً لم يقْصِدها، وثـانيًا لم يُصِرَّ عليها،
لا يُمْكن أن تكون معاصي المؤمن في الكبائر لقول الله عز وجل:
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68)﴾
(سورة الفرقان)
نفى عنهم الزِّنا نفْيًا كُلِيًّا،
(( عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ
كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
(رواه أحمد)
هذا ما في عقيدة المسلمين، أما إذا ظنَنَّا أنَّ
أحدًا غير النبي عليه الصلاة والسلام معصومًا وقَعنا في إشكالٍ كبير، إذْ
عندها ينبغي أن نُسَلِّم له دون أن نُفَكِّر !! وقد بيَّنْتُ لكم كثيرًا
أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم يرْض منَّا أن نُعطّل عقولنا مع أحد، فما
جاءنا عن صاحب هذه القبَّة الخضراء فعلى العَين والرَّأس وما جاءنا عن
غيره فهم رِجال ونحن رِجال، وكلّ يُؤخَذُ منه، ويُرَدُّ عليه.
شيءٌ آخر، إنسانٌ قد يتفوَّق تفوُّقًا كبيرًا ؛
ليس معنى ذلك أنَّه إن أخطأ يُهْدرُ عِلمُهُ، وتُهْدرُ مكانتُهُ، فَمِن
نعمة الله على المسلمين أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بيَّن أنَّ المخلص
المجتهد إذا أخطأ له أجر، وإن أصاب فله أجران، والشيء الآخر أنَّ علاقة
المؤمن مع الله وحدهُ، بِمَعنى أنَّه لو اسْتَطَعتَ أن تنْتَزِعَ من فَمِ
النبي عليه الصلاة والسلام - وهو سيِّد الخلق، وحبيب الحق - حُكْمًا
لِصالِحِك، ولم تكن على حقٍ لا تنْجو من عذاب الله والدليل قوله عليه
الصلاة والسلام: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ
بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ
أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ
النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
(رواه البخاري )
عَجَبي أنَّ أحد المسلمين إذا أخـذ فتوى من
عالمٍ يطمئِنّ ! فأنت إن أعطَيت العالم أوصافًا خاطِئَة، فالعالم يُجيب
نتيجة ما يسمع، فالعالم على حق، ولكن أنت على باطل !! ثمَّ تقول: هكذا أفتى
لي فلان، فهناك عشرات الفتاوى لا أشكّ أنَّ أصحابها توخَّوا مرضاة الله عز
وجل، ولكن جاءهم وصْف مُخالف للواقِع فأفْتَوا على قَدْر الوَصف، والأتباع
تمسَّكوا بهذه الفتوى واستعملوها في غير محلِّها، وهم يتوهَّمون أنَّ الله
تعالى لن يُؤاخِذهم لأنَّ فلانًا أفتى لهم !! كُن على يقين أنَّك لن تنْجو
من عذاب الله ولو أفتى لك الرسول عليه الصلاة والسلام !!
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ
بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ
أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ
النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
(رواه البخاري )
علاقتك مع الله وحده، والله يعلم كلّ شيء،
وحقيقة أيّ شيء،و يعلم الباعث لِكُلّ شيء ويعلم حجْم التَّضْحِيَة، وهو
يعلم وحده، ونحن لا نعلم، والدليل لمَّا سيّدنا الصِّديق رضي الله عنه
استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعضهم تألَّم لهذا الاستخلاف لأنّ عمر
كان شديدًا فقال له بعضهم كيف تُواجِهُ ربَّك وقد اسْتخلفتَ علينا عمر ؟!
فقال الصِّديق رضي الله عنه: أقول يا ربّ، لقد اسْتخلفتُ عليهم أرْحَمَهم،
وهذا علمي به، فإن غيَّر وبدَّل فلا عِلم لي بالغَيب !!.
أرأيتم إلى هذا الأدب الرفيع، هذا علمي به، فإن
بدَّل و غيَّر فلا علم لي فلذلك أنت بروحٍ رياضية تعاملْ مع الناس كلِّهم
على أنهم يصيبون و يخطئون، فإن أصابوا فلمتابعتهم للنبيِّ عليه الصلاة و
السلام لأنه معصوم و إن أخطئوا فلعدم متابعتهم له، فخُذْ منهم ما أصابوا و
الذي لم يصيبوا فيه إما أن تدَعَهُ و إما أن تنصحهم به، وللإمام الشافعي
مقولة تُعْجبني، قال: نتعاونُ فيما اتَّفقنا ويعْذُر بعضنا بعضا فيما
اخْتلفنا، أو نتعاوَنُ فيما اتَّفقنا، وينْصَحُ بعضنا بعضًا فيما اخْتلفنا،
فالشيء المُطابق للسنَّة خُذْهُ وأنت مُطمئِنّ، والاجتهاد غير الصحيح إما
أن تدَعَهُ، وإما أن تنْصح، ولكن لا تُسَـبِّب فِتنةً بين المسلمين، خُذْ
ما صفا ودَع ما كدَر قال عليه الصلاة والسلام: صلّ وراء كل بر وفاجر ! لا
شيء عليك.
مـرّةً ثانية، يعتقد أهل السنة والجماعة أنَّ
النبي صلى الله عليه وسلّم معصومٌ بِمُفردَهِ، بينما أُمَّتُهُ معصومةٌ
بِمَجموعها، ونحن إذا التقينا، وتعاونَّا، وتناصَحنا عُصِمْنا جميعًا، ويد
الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، وعليكم بالجماعة وإياكم
والفُرْقة فإنَّ الشيطان مع الواحِد ومن الاثنين أبْعد، وإنما يأكل الذئب
من الغنم القاصية، والمؤمن يتعاون مع إخوانه من خلال الاستشارة، ويسْتلهم
الله من خلال الاسْتِخارة، فهو يستشير أولي الخبرة من المؤمنين، ويستلهم
الله بقدرته بالاستخارة، فمن استخار واستشار ما خاب وما ندم.
والحمد لله رب العالم