قاتل المائة
البراء بن مالك
إنه
البراء بن مالك بن النضر -رضي الله عنه- أخو أنس بن مالك خادم رسول الله
(، وأحد الأبطال الأقوياء، بايع تحت الشجرة، وشهد أحدًا وما بعدها من
الغزوات مع رسول الله (، عاش حياته مجاهدًا في سبيل الله.
وكانت كل
أمانيه أن يموت شهيدًا، وقتل بمفرده مائة رجل في المعارك التي شارك فيها،
فقد دخل عليه أخوه أنس مرة وهو يتغنى بالشعر، فقد منحه الله صوتًا جميلا،
فقال له: يا أخي، تتغنى بالشعر، وقد أبدلك الله به ما هو خير منه القرآن؟
فقال له: أتخاف عليَّ أن أموت على فراشي، لا والله، ما كان الله ليحرمني
الشهادة في سبيله، وقد قتلت مائة بمفردي سوى من شاركت في قتله.
وشارك في
حروب الردة، وأظهر فيها بطولة فائقة، أبهرت عقول من رآه، وها هو ذا يوم
اليمامة يقف منتظرًا أن يصدر القائد خالد بن الوليد أمره بالزحف لملاقاة
المرتدين، ونادى خالد: الله أكبر. فانطلقت جيوش المسلمين مكبرة، وانطلق
معها عاشق الموت البراء بن مالك.
وراح يقاتل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه،
وهم يتساقطون أمامه قتلى؛ الواحد تلو الآخر، ولم يكن جيش مسيلمة ضعيفًا،
ولا قليلا، بل كان أخطر جيوش الردة، وقد تصدوا لهجوم المسلمين بكل عنف حتى
كادوا يأخذون زمام المعركة، وتحولت مقاومتهم إلى هجوم، فبدأ الخوف يتسرب
إلى صفوف المسلمين، فأسرع خالد بن الوليد إلى البراء بن مالك قائلا له:
تكلم يا براء، فقام البراء، وصاح في المسلمين مشجعًا، ومحفزًا لهم على
القتال، فقال: يا أهل المدينة، لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله وحده
والجنة. وركب فرسه واندفع نحو الأعداء، ومعه المسلمون يقاتلون قتالا شديدًا
حتى رجحت كفة المسلمين، واندفع المرتدون إلى الوراء هاربين، واحتموا
بحديقة لمسيلمة ذات أسوار عالية .
ووقف المسلمون أمام الحديقة يفكرون في
حيلة يقتحمون بها الحصن، فإذا بالبراء بن مالك، يقول: يا معشر المسلمين،
ألقوني إليهم. فاحتمله المسلمون وألقوه في الحديقة، فقاتلهم حتى فتحها على
المسلمين، ودخل المسلمون الحديقة، وأخذوا يقتلون أصحاب مسيلمة، وانتصر
المسلمون إلا أن حلم البراء لم يتحقق، لقد ألقى بنفسه داخل الحديقة آملا أن
يرزقه الله الشهادة، ولكن لم يشأ الله بعد.
ورجع البراء بن مالك وبه
بضعة وثمانون جرحًا ما بين ضربة بسيف أو رمية بسهم، وحمل إلى خيمته ليداوى،
وقام خالد بن الوليد على علاجه بنفسه شهرًا كاملا.
وعندما شُفي البراء
من جراحات يوم اليمامة، انطلق مع جيوش المسلمين التي ذهبت لقتال الفرس، وفي
إحدى حروب المسلمين مع الفرس لجأ الفرس إلى وسيلة وحشية حيث استخدموا
كلاليب من حديد معلقة في أطراف سلاسل ملتهبة محماة بالنار، يلقونها من
حصونهم، فترفع من تناله من المسلمين، وسقطت إحدى هذه الكلاليب على أنس بن
مالك، فلم يستطع أنس أن يخلص نفسه، فرآه البراء، فأسرع نحوه، وقبض على
السلسلة بيديه، وأخذ يجرها إلى أسفل حتى قطعت، ثم نظر إلى يديه فإذا عظامها
قد ظهرت وذاب اللحم من عليها، وأنجى الله أنس بن مالك بذلك.
وظل البراء
-رضي الله عنه- يقاتل في سبيل الله معركة بعد أخرى متمنيًا أن يحقق الله
له غايته، وها هى ذي موقعة تُسْتُر تأتى ليلاقي المسلمون فيها جيوش الفرس،
وتتحقق فيها أمنية البراء.
لقد تجمع الفرس واحتشدوا في جيش كثيف، وجاءوا
من كل مكان للقاء المسلمين، وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أميريه
على الكوفة والبصرة أن يرسل كل منهما جيشاً إلى الأهواز، والتقى الجيشان
القادمان من الكوفة والبصرة بجيش الفرس في معركة رهيبة، وكان البراء أحد
جنود المسلمين في تلك المعركة، وبدأت المعركة بالمبارزة كالعادة، فخرج
البراء للمبارزة، والتحم الجيشان وتساقط القتلى من الفريقين، وكاد المسلمون
أن ينهزموا.
فاقترب بعض الصحابة من البراء قائلين له: يا براء، أتذكر
يوم أن قال الرسول ( عنك: (كم من أشعث أغبر ذى طمرين (ثوبين قديمين)، لا
يؤبه له (لا يهتم به أحد) لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك؟)
[الترمذي]. ثم طلب الصحابة منه أن يدعو الله لهم، فرفع البراء يده إلى
السماء داعيًا: اللهم امنحنا أكتافهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، اللهم
ألحقني بنبيك.
ثم انطلق فركب فرسه، وهجم على الفرس، وقتل أحد كبارهم،
وفتح الله على المسلمين وانتصروا على الفرس، واستشهد البراء بن مالك في هذه
المعركة بعد رحلة جهاد طويلة، قدم فيها البراء كل ما يملك في سبيل دينه،
وكانت وفاته في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سنة
(20هـ) رضي الله عنه وأرضاه.