الدرة الثامنة:
هديُهُ عليهِ الصَّلاة والسَّلام في قيام الليل
القِيام شأنُهُ عظيم، والقِيام
يُرادُ بِهِ الصَّلاة، من بعْدِ صلاة العِشاء إلى طُلُوع الفجر هذا قِيامُ
الليل، وعِمَارة هذا الوقت بالصَّلاة والتِّلاوة والذِّكر، وأفْضَلُهُ كما
جاء عن النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((وأفْضَلُ القِيام قِيَام
دَاوُود وصلاة دَاوُود -عليه السَّلام- يَنامُ نِصْفَ الليل، ثُمَّ يَقُومُ
ثُلث الليل ثُمَّ يَنامُ سُدْسَهُ))، يَنامُ نِصْفَ الليل، ويَحْسِب الليل
من صلاة العِشاء من الوقت الذِّي يَتَسَنَّى فيهِ القِيام، وإذا تمَّ
الحِسابُ على هذا الأساس من صلاة العِشاء ونام نِصف الليل يكُونُ قِيامُهُ
في الثُّلث الأخير، بينما لو حَسَبْنا الليل من غُرُوب الشَّمس صار
قِيَامُهُ بدأ من نِصف الليل قبل وقت النُّزُول الإلهي كما أشار إلى ذلك
شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، فالمقصُود أنَّ هذا الوقت يُعمر بالصَّلاة
والتِّلاوة والذِّكْر، فالنَّوم الذِّي ينامُهُ بعد صلاة العِشاء، وينوي
بِهِ الاستعانة على القِيام هو في صلاة، هو في قِيام وفي عبادة يُكتب لهُ
أجرُها، فإذا قام الثُّلث واستغل هذا الوقت بما يَكْتُبُهُ اللهُ لهُ على
خِلافٍ بين أهل العلم في القَدْر المُحدَّد من الرَّكعات، فلقد جاء عن
عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنَّها قالت ((ما كان رسُول الله صلى الله
عليه وسلَّم يزيدُ في رمضان ولا في غيرِهِ على إحدى عشرةَ ركعة ، يُصلِّي
أربعاً فلا تسأل عن حُسْنِهِنّ وطُولِهِنّ، ثُمَّ يُصلِّي أربعاً فلا تسأل
عن حُسْنِهِنّ وطُولِهِنّ، ثُمَّ يُوتِر بثلاث)) هذهِ إحدى عشرة، وجاء
أيضاً عن النبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- في الصَّحيحين ثلاث عشرة، وصحَّ
عنهُ الخمس عشرة في حديث ابن عبَّاس، كُلُّ هذا يَدُلُّنا على أنَّ العدد
غير مُرَاد، ويُؤيِّدُ هذا الإطْلاق في حديث: ((صلاةُ الليلِ مثْنَى
مثْنَى)) فتُصلِّي في الليل ركعتين ركعتين كما قال ابن عبَّاس: ((صلَّى
ركعتين، ثُمَّ ركعتين، ثُمَّ ركعتين، ثُمَّ ركعتين، ثُمَّ ركعتين، ثُمَّ
ركعتين، ثُمَّ أَوْتَر)) خمس عشرة ركعة، المقصُود أنَّ العدد غير مُرَاد
بدليل أنَّهُ ثبت عنهُ -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- الزِّيادة على الإحدى
عشرة، وما جاء في حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- على حدِّ عِلمِها،
والمُثْبِتْ مُقدَّم على النَّافِي، فَعَلَى هذا القول المُرجَّح في القيام
أنَّهُ لا حدَّ لهُ؛ بل يُصلِّي الأرْفَق بِهِ والأنْفَع لِقَلْبِهِ؛ فإذا
كان الأرْفَق بِهِ كَثْرَة الرُّكُوع والسُّجُود وفي هذا يقُول النَّبي
-عليهِ الصَّلاة والسَّلام- لمَنْ طلب مُرافقَتُهُ في الجنَّة، قال:
((أعِنِّي على نفسِكَ بكثرة السُّجُود)) والسُّجُود أَشْرَف أرْكان
الصَّلاة ((وأَقْرَبُ ما يكُون العبدُ من ربِّهِ وهو ساجد)) والكَثْرَة
مطلُوبة ، كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: ((أعِنِّي على نفسِكَ بكثرة
السُّجُود)) وإذا كان الأنْسَب لهُ تطويل القِيام، وكثرة قراءة القرآن ؛
لأنَّهُ يتلذَّذ بِهِ، فالقُرآنُ أفضلُ الأذكار، والخِلافُ بين أهلِ العلم
في المُفاضلة بين طُول القِيام الذِّي هو القُنُوت {وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ} [البقرة/238]، وهو أشْرَفُ من غيرِهِ بِذِكْرِهِ لا بِذَاتِهِ،
والسُّجُود أشْرَف بِذَاتِهِ، وعلى كُلِّ حال المسألة مُفْتَرَضَة في من
يُريدُ أنْ يقُوم من الليل ساعة أو ساعتين أو ثلاث ويسأل يقول هل أُصلِّي
في ثلاث السَّاعات إحْدَى عشرة ركعة أو أُصلِّي ثلاثين ركعة... أيُّهُما
أفضل؟ نقول: إذا أردْتَ أنْ تَقْتَدِيَ بما ثَبَت عن النَّبي -عليه
الصَّلاة والسَّلام- كمًّا وكيفاً فهذا هو الأكمل، ما تقول أنا أقتدِي
بالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حديث عائشة وأنَّهُ ما زاد ثُمَّ
تنقُرُ إحدى عشرة ركعة في عشر دقائق وتقول: أصبت السُّنَّة! لا يا أخي، إذا
أرَدْت أنْ تنظُر إلى هذا العدد فانظُر إلى أنَّهُ -عليه الصَّلاة
والسَّلام- افتتح البقرة ثُمَّ النِّساء ثُمَّ آل عمران في ركعة،
ورُكُوعُهُ قريبٌ من قِيامِهِ، رُكُوعُهُ وسُجُودُهُ قريب من السواء، فإذا
استغلَّ الوقت، ولِذا جاء في سُورة المُزمِّل التَّحديد بالوقت بالزَّمن لا
بالعَدد {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل/ 2]، ثُمَّ في آخر
السُّورة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل/20]، المقصُود أنَّ التَّحديد
بالزَّمن لهُ نَظَر؛ بل لهُ الحظُّ الأكبر من النَّظر؛ فالذِّي يُصلِّي
ثلاث ساعات أفضل من الذِّي يُصلِّي ساعتين اتِّفَاقاً؛ فالمسألة مسألة وقت،
فإذا عمر هذا الوقت بطاعة الله -جلَّ وعلا- وعندنا ما يُؤيِّدُ الإطلاق
((صلاةُ الليلِ مثْنَى مثْنَى)) فلتُصلِّ ما شِئْت على أنْ تَجْتَنِب
السُّرعة والعجلة التِّي تذهبُ بِلُبِّ الصَّلاة، تأتي بصلاةٍ صحيحة
تُفيدُكَ، وتُقرِّبُك من الله -جلَّ وعلا-، ويرى بعضُهُم أنَّ ما زاد على
الإحدى عشرة بدعة؛ لكن كيف نقُولُ بدعة وقد ثَبَت عن النَّبي -عليهِ
الصَّلاة والسَّلام- غير هذا العَدَد، وصحَّ عنهُ الإطلاق ((صلاةُ الليلِ
مثْنَى مثْنَى)) في حديث عائشة: ((يُصلِّي أربعاً)) وإذا ضَممنا إليه صلاةُ
الليلِ مثْنَى مثْنَى قُلنا يُصلِّي أربعاً بسلامين، وأهلُ العلم
يُؤكِّدُون على أنَّ من قام إلى ثالثة في صلاة الليل فكأنَّما قام إلى
ثالثة في فجر، لا بدَّ أنْ يَرجع، فيُصلِّي أربع... فلماذا قالت أربع ما
قالت ركعتين ركعتين؛ لأنَّ الفواصل بين هذهِ الرَّكعات بين كُل أربع ركعات،
ولِذا سُمِّيت الصَّلاة في رمضان تراويح؛ لأنَّهم يستريحُون بين كُل أربع
ركعات، وهو ما يدل عليه حديث عائشة ((يُصلِّي أربعاً فلا تسأل عن
حُسْنِهِنّ وطُولِهِنّ، ثُمَّ يُصلِّي أربعاً)) يدلُّ على أنَّ هُناك فاصل
بين الأربع.